كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(11) مَعْرِفَةُ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَمَذَاهِبِ الْأُمَمِ فِيهَا لِيَتَيَسَّرَ لِلدُّعَاةِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ بُطْلَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي سَنَةِ الْمَنَارِ الثَّالِثَةِ مَقَالَةً فِي الدَّعْوَةِ وَطَرِيقِهَا وَآدَابِهَا جَعَلْتُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ وَمَا قَبْلَهُ وَاحِدًا، فَقُلْتُ فِيهِ (ص 484 م 3) ثَالِثُهَا- أَيِ الشُّرُوطُ- الْوُقُوفُ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالدَّعْوَةِ وَيَصْلُحُ أن يكون شُبْهَةً، وَمَنْ جَهِلَ هَذَا الْقَدْرِ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ، وَحَلِّ عُقَدِ الْمُشْكِلَاتِ، وَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الشَّرْطُ وَمَا قَبْلَهُ- وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ- لَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ سَادَةِ الدُّعَاةِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَلَقَدْ عَلِمَ رُؤَسَاءُ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِالْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَمُعَادَاتِهِمْ لَهَا، وَتَحْكِيمِهِمُ الدِّينَ فِيهَا مُؤْذِنٌ بِاضْمِحْلَالِهَا، وَمُفْضٍ إِلَى زَوَالِهَا، فَأَخَذُوا بِزِمَامِهَا، وَقَادُوهَا بِخِطَامِهَا، وَقَرَّبُوا بَيْنَ عَالَمَيِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَقَرَنُوا بَيْنَ عِلْمِيِ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَبِهَذَا أَمْكَنَهُمْ حِفْظُ حُرْمَةِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ بَيْنَ الْعَالَمِينَ.
وَدِينُنَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بَيْنَ الْعَالَمِينَ، وَلَكِنَّنَا نَقْطَعُ الرَّوَابِطَ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ وَلَكِنَّنَا نَهْدِمُ الْجَوَامِعَ، وَلِهَذَا جَهِلْنَا وَتَعَلَّمُوا، وَسَكَتْنَا وَتَكَلَّمُوا، وَتَأَخَّرْنَا وَتَقَدَّمُوا، وَنَقَصْنَا وَزَادُوا، وَاسْتُعْبِدْنَا وَسَادُوا. اهـ.
كُلُّ هَذَا مِنَ الشُّرُوطِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلِلدَّعْوَةِ شُرُوطٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِتَرْبِيَةِ الدُّعَاةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ سَنَشْرَحُهَا فِي تَفْسِيرِ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [16: 125] إِنْ أَمْهَلَ الزَّمَانُ. وَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ فُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ لِأَجْلِ فَهْمِ الدِّينِ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَعَلُّمِ طُرُقِ الدَّعْوَةِ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِطَرِيقَةٍ صِنَاعِيَّةٍ، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ قَدْ تَيَسَّرَتْ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ صِنَاعِيٍّ وَلَا تَأْلِيفِ جَمْعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا كَانَ فَهْمُ الدِّينِ مُتَيَسِّرًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ صِنَاعِيٍّ فَفِي هَذَا الزَّمَانِ يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الدِّينِ عَلَى التَّعْلِيمِ الصِّنَاعِيِّ، وَتَتَوَقَّفُ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَالأمر بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَمَا حَظَرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ عَلَى تَعْلِيمٍ خَاصٍّ وَتَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ تَقُومُ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَلَا يَنْتَشِرُ الدِّينُ وَلَا يُحْفَظُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بِهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْوِيهُ بِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الَّتِي تُقِيمُهَا الْأُمَّةُ لِذَلِكَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْجَمْعِيَّةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَمِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ أَقْبَحُ الْمُنْكَرِ، وَالظَّالِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَوِيًّا وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِي النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ أن يكونوا أُمَّةً؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تُخَالَفُ وَلَا تُغْلَبُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ الَّتِي تُقَوِّمُ عِوَجَ الْحُكُومَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْحُكُومَةَ الإسلاميَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلِ الشُّورَى، وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَدَلَالَتُهَا أَقْوَى مِنْ قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [42: 38] لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ خَبَرِيٌّ لِحَالِ طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ أَكْثَرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَمْدُوحٌ فِي نَفْسِهِ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَأَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [3: 159] فَإِنَّ أَمْرَ الرَّئِيسِ بِالْمُشَاوَرَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَامِنٌ يَضْمَنُ امْتِثَالَهُ لِلْأَمْرِ فَمَاذَا يَكُونُ إِذَا هُوَ تَرَكَهُ؟ وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَفْرِضُ أن يكون فِي النَّاسِ جَمَاعَةٌ مُتَّحِدُونَ أَقْوِيَاءُ يَتَوَلَّوْنَ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحُكَّامِ وَالْمَحْكُومِينَ، وَلَا مَعْرُوفَ أَعْرَفُ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا مُنْكَرَ أَنْكَرُ مِنَ الظُّلْمِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لابد أَنْ يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا».
هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ الطُّلَّابِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَفَسَّرَهُ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يُفْنُوهُمْ أَيِ الظَّالِمِينَ وَيُبِيدُوهُمْ وَهُوَ كَمَا فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ مَعْزُوٌّ إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسرائيل كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أن يكون أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُّنَ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ».
وَعَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسرائيل فِي الْمَعَاصِي فَنَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» وَقَدْ أَوْرَدَ الْفِقْرَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ الرِّوَايَةِ الأولى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ وَقَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ قوله: «تَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ» تَعْطِفُوهُ عَلَيْهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ تَابِعَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَقُومُ بِفَرِيضَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى مَجَالِسِ النُّوَّابِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَكَأَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِكَوْنِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى وَأَمْرُهُمْ شُورَى وَمَعْنَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ أنه يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا كَذَا، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنَ النَّصَّيْنِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ حُكُومَةِ الْمُسْلِمِينَ شُورَى، وَمَجِيءُ النَّصِّ الْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ فَرْضًا حَتْمًا، كَمَا عُهِدَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ وَمَرَّ مَعَنَا كَثِيرٌ مِنْهَا رَاجِعْ تَفْسِيرَ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [2: 228] الْآيَةَ، وَالنَّصُّ الثَّانِي صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ وَالضَّامِنُ لَهُ الْأُمَّةُ الْمُخَاطَبَةُ بِالتَّكَالِيفِ فِي أَكْثَرِ النُّصُوصِ. وَإِنَّمَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ كَمَا يَأْتِي مُبَيَّنًا عَنْهُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى-.
قَالَ: وَمِمَّا يُنَاطُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ- وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مَعْرُوفٍ- النَّظَرُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ فِي مَكَانٍ مَا طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ بِمَا يَجِبُ اتَّخَذْتَ الْوَسَائِلَ لِتَعْلِيمِهِمْ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أنه لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدُّوا لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُوهُمْ، وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ مُنْتَظِرًا سُؤَالَ النَّاسِ لِيُفِيدَهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ اهْتِدَاءً بِهَدْيِهِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْقَائِمِينَ بِالأمر وَالنَّهْيِ أُمَّةً يَسْتَلْزِمُ أن يكون لَهَا رِيَاسَةٌ تُدَبِّرُهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ رِيَاسَةٍ يَكُونُ مُخْتَلًّا مُعْتَلًّا، فَكُلُّ كَوْنٍ لَا رِيَاسَةَ فِيهِ فَاسِدٌ، فَالرَّأْسُ هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَعْمَالِهَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ رَئِيسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَصْدَرَ النِّظَامِ وَتَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعَامِلِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الإسلام، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَمَقَامُ الرِّيَاسَةِ يَخْتَارُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِكُلِّ عَمَلٍ وَلِكُلِّ بِلَادٍ مَنْ يَكُونُونَ أَكْفَاءَ لِلْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا؛ لِتَكُونَ أَعْمَالُهُمْ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَقْصِدِ الْأُمَّةِ الْعَامِّ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ أن يكون لِلْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ مِنْهُمْ وَحْدَةٌ فِي الْقَصْدِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَسَيْرِهِمْ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ فَسَدَ الْعَمَلُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَنْكِيثِ الْقُوَى؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ مُنْتَخَبَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَامَّةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِلْعَامَّةِ رِقَابَةٌ وَسَيْطَرَةٌ عَلَى الْخَاصَّةِ تُحَاسِبُهَا عَلَى تَفْرِيطِهَا وَلَا تُعِيدُ انْتِخَابَ مَنْ يُقَصِّرُ فِي عَمَلِهِ لِمِثْلِهِ. فَالْأُمَّةُ الصُّغْرَى الْمُنْتَخَبَةُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ الْكُبْرَى الْمُنْتَخِبَةِ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَهَذِهِ تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَّةِ الصُّغْرَى، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِي تَكَافُلٍ وَتَضَامُنٍ.
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ- سُبْحَانَهُ وَتعالى- بِأَنْ تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دُونَ سِوَاهُمْ- لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَ سِيَاجَهُ، وَبِهِمْ تَتَحَقَّقُ الْوَحْدَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ- نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ وَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ شِيعَةٍ تَذْهَبُ مَذْهَبًا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْأُخْرَى، وَصَارَ كُلٌّ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَيُخَطِّئُ مَا سِوَاهُ حَتَّى تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا عَلَى ذَلِكَ، رَاجِعْ تَفْسِيرَ آية: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [2: 253] فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَلَوْ كَانُوا أُمَّةً أَوْ كَانَ فِيهِمْ أُمَّةٌ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَقَاصِدِ، وَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ وَتَعَدَّدَتْ فِيهِمُ الْمَذَاهِبُ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَيَحِلَّ بِكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ} وَمَا بَعْدَهَا، فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ هُوَ الْأَصْلُ وَبِهِ يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ الَّذِي يَجْعَلُ الْأُمَّةَ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ هِيَ الَّتِي تَغْذُو هَذِهِ الْوَحْدَةَ وَتَمُدُّهَا وَتُنَمِّيهَا، وَالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ تَقُومُ بِهِ أُمَّةٌ قَوِيَّةٌ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهَا وَيُؤَيِّدُهَا وَيَشُدُّ أَزْرَهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وِجْهَةُ الْأُمَّةِ الدَّاعِيَةِ الأمرةِ النَّاهِيَةِ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مَا أَفْلَحُوا لِعَدَمِ وَحْدَتِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَكَوَّنَ فِيكُمْ أُمَّةٌ لِلدَّعْوَةِ وَالأمر وَالنَّهْيِ إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ طَبِيعِيٌّ، إِذْ مِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الْمُتَّفِقِينَ فِي الْمَقْصِدِ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا ضَارًّا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْمَقَاصِدِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْأَهْوَاءِ بِذَهَابِ كُلٍّ إِلَى تَأْيِيدِ مَقْصِدِهِ وَإِرْضَاءِ هَوَاهُ فِيهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ لِأَجْلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، وَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا قَوْلَيْنِ أَقْرَبُهُمَا ثَانِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ:
(الْأَوَّلُ) أنه تعالى ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ أنه بَيَّنَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ الإسلام وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَاحْتَالُوا فِي إِلْقَاءِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي تِلْكَ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ أنه تعالى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بالإيمان بِاللهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ حَذَّرَ مِنْ مِثْلِ فِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ إِلْقَاءُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ وَاسْتِخْرَاجُ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ الرَّافِعَةِ لِدَلَالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ، فَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظَّاهِرَةُ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ جُمْلَةِ الْآيَاتِ.
وَ(الثَّانِي) وَهُوَ أنه تعالى لَمَّا أَمَرَ بِالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الأمر بِالْمَعْرُوفِ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا التَّكْلِيفِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَالِينَ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ إِلَّا إِذَا حَصَلَتِ الْأُلْفَةُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّينِ، لَا جَرَمَ حَذَّرَهُمْ تعالى مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ؛ لِكَيْلَا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَتِمَّةِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ. اهـ. وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ فِي تَفْسِيرِهَا وَاتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهُ هُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ آنِفًا.
وَعُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ نَاشِئًا عَنِ التَّفَرُّقِ لَا كُلُّ اخْتِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي وَسَائِلِ تَأْيِيدِ الْمَقْصِدِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ الَّذِي لَا يَدُومُ مَعَهُ خِلَافٌ، وَإِذَا دَامَ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ فِي الْعَمَلِ، إِذِ الْمُتَّفِقُونَ الْمُخْلِصُونَ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى قَوْلِ مَنْ ظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ الْبُرْهَانُ مِنْهُمْ وَإِلَّا عَمِلُوا بِرَأْيِ الْأَكْثَرِينَ فِيمَا لَا يَظْهَرُ لِلْأَقَلِّينَ بُرْهَانُهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا نَخُوضُ فِي أَقْوَالِ الْمُئَوِّلِينَ الْمُتَحَكِّكِينَ بِالْأَلْفَاظِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ كَحَمْلِ بَعْضِهِمُ التَّفَرُّقَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْعَقَائِدِ، وَالِاخْتِلَافَ عَلَى مَا يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ، وَادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْآيَةُ ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى. أَقُولُ: وَمِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الرَّازِيُّ أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِسَبَبِ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ حَاوَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ. وَهَذَا وَاقِعٌ وَلَكِنَّهُ تَفْسِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ وَكُلُّهُ أَثَرٌ لِلتَّفَرُّقِ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ تَفَرَّقُوا بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَحْبَارِ رَئِيسًا فِي بَلَدٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أنه عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ صَاحِبَهُ عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا الْقَوْلِ: وَأَقُولُ: أنك إِذَا أَنْصَفْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَانِ صَارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ. اهـ.
أَقُولُ: وَتَبِعَ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِهِ هَذَا فِي الْعُلَمَاءِ نِظَامُ الدِّينِ الْحَسَنُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (كَعَادَتِهِ) فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَفَرُّقِ الْأَحْبَارِ وَاخْتِلَافِهِمْ: وَلَعَلَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَنَسْأَلُ اللهَ الْعِصْمَةَ وَالسَّدَادَ. اهـ. وَسَبَقَهُمَا حُجَّةُ الإسلام الْغَزَّالِيُّ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الِاخْتِلَافِ مَا عَدَا الْأَفْرَادَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ التَّقْلِيدَ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ- وَهُوَ كِتَابُهُ- وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَكِنْ صَوْتُ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ لَا يُسْمَعُ بَيْنَ جَلَبَةِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلاسيما أَصْحَابُ الْمَنَاصِبِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَ الأمراءِ وَالْمُلُوكِ الَّذِينَ يُدَعِّمُونَ سُلْطَتَهُمْ بِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الْعَامَّةُ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءَ الْأَفْرَادَ الَّذِينَ تَنَبَّهُوا فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى إِلَى سُوءِ حَالِ عُلَمَاءِ الإسلام الَّذِينَ يُلَقِّبُهُمُ الْغَزَّالِيُّ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ لَمْ يُحَاوِلُوا مُعَالَجَةَ هَذَا الدَّاءِ وَاصْطِلَامِ أَرْوِمَتِهِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ الْمَذَاهِبِ وَالتَّعَصُّبُ لَهَا بِالدَّوَاءِ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ تعالى فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَى الِاعْتِصَامِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلِ اكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِالشَّكْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنْكَارِهِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يُؤَلِّفُهَا كَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ، أَوْ بِاللِّسَانِ لِبَعْضِ تَلَامِيذِهِ كَمَا نَقَلَ الرَّازِيُّ عَنْ أَكْبَرِ شُيُوخِهِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبأنهمْ أَرْبَابًا} [9: 31] فَإِنَّهُ بَعْدَ تَفْسِيرِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ قَالَ مَا نَصَّهُ:
قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنه: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى فِي بَعْضِ مَسَائِلَ وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ! يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا! وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ الرَّازِيَّ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- كَانَ يُقَرِّرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُفَسِّرُ آيَاتِهَا وَيَنْسَاهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَيَتَعَصَّبُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، لاسيما فِيمَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الْحَنَفِيَّةَ. وَهَذَا هُوَ أَصُولُ الدَّاءِ الَّذِي يَشْكُو مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ سَبَبِهَا. أَمَّا الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فَقَدْ تَجَرَّدَ عَنِ التَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ كُلِّهَا فِي نِهَايَتِهِ، وَوَصَفَ الدَّوَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ كَالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (رَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص 11 مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ إِلَى تَأْلِيفِ أُمَّةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتَقُومُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الرَّازِيُّ وَشَيْخُهُ يَقُولَانِ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ السَّابِعِ، وَالْغَزَّالِيُّ يَقُولُ فِي عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ مَا قَالُوا فَمَاذَا نَقُولُ فِي أَكْثَرِ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِمَا نَعْرِفُهُ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَشُقُّونَ لِأُولَئِكَ غُبَارًا؟ أَلَسْنَا الْآنَ أَحْوَجَ إِلَى الْإِصْلَاحِ مِنَّا إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الَّتِي اعْتَرَفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الظُّلُمَاتِ فِيهَا غَشِيَتِ النُّورَ، حَتَّى ضَلَّ بِالِاخْتِلَافِ الْجُمْهُورُ؟ بَلَى، وَهُوَ مَا نُعَانِي فِيهِ مَا نُعَانِي وَإِلَى اللهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ.
وَقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْسَأن لا يُؤَاخَذُ عَلَى تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ إِلَّا إِذَا بُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ، أَوْ صَارَ بِحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ لَوْ نَظَرَ فِيهِ، وَالْجَهْلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ بَعْدَ الْبَيَانِ، كَمَا هُوَ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَّامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
قال تعالى فِي الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَهَذَا الْوَعِيدُ يُقَابِلُ الْوَعْدَ الْكَرِيمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقوله تعالى فِي الدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ الأمرينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْفَلَاحُ فِي ذَلِكَ الْوَعْدِ يَشْمَلُ الْفَوْزَ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَذَابُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ يَشْمَلُ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَحَكَّمُوا فِي دِينِهِمْ آرَاءَهُمْ يَكُونُ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَيَشْقَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يُبْتَلَوْنَ بِالْأُمَمِ الطَّامِعَةِ فِي الضُّعَفَاءِ فَتُذِيقُهُمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ، وَتَسْلُبُهُمْ عَزَّةَ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ فِي كِتَابِهِ أنه أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا السُّؤَالَ: هَلْ قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ الأمر وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وَانْتَهَوْا عَنْ هَذَا النَّهْيِ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا؟ وَجَعَلَ ذَلِكَ مَجَالًا لِتَفَكُّرِ طُلَّابِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا جَوَابُهُ هُوَ فَكَمَا نَقَلْنَا لَكَ عَنِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَعَنْ شَيْخِهِ، وَالأمر ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا، وَإِذَا كَأن لا يَزَالُ فِي عُلَمَاءِ الرُّسُومِ مِنَّا مَنْ يَقُولُ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي فَلَاحٍ وَفَوْزٍ فَقَدْ عَلِمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا عِزَّهُمْ وَاسْتِقْلَالَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ بِمَا فَقَدُوا وَبِمَا يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَفْقِدُوا مِمَّا بَقِيَ لَهُمْ، وَأَنَّ أَذْكِيَاءَ شُعُوبِهِمْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى بُعْدِ الدَّارِ وَقُرْبِهِ عَنْ طَرِيقِ عِلَاجِ الدَّاءِ، قَبْلَ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّمَاسِ الشِّفَاءِ قَبْلَ الْإِشْفَاءِ، وَالْعِلَاجُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَمَتَى يُبْصِرُونَ! وَالطَّبِيبُ يُنَادِيهِمْ فَأَنَّى يَسْمَعُونَ؟ عَسَى أن يكون ذَلِكَ قَرِيبًا.
ذَلِكَ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ يَكُونُ لِلْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ. اهـ.